.:: ( أقسام المسافرين إلى الله تعالى ) ::.
العبد مِن حين استقرت قَدَمُه في هذه الدار فهو مُسافر فيها إلى رَبِّه، ومُدة سفره هي عُمره الذي كُتب له، فالعمر هو مُدة سَفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه، ثم قد جُعلت الأيام والليالي مراحل سفره، فكل يوم وليلة مَرحلةٌ مِن المَراحل، فلا يزال يطْوِيهَا مَرحلةً بعد مَرحلة حتى ينتهي السفر.
فالكَيِّسُ الفَطِن هو الذي يجعل كُلّ مرحلة نُصبَ عَينيه فَيَهتمّ بقطعها سَالمًا غانمًا، فإذا قطعها جَعل الأخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ويمتد أمله، ويحصر بالتسويف والوعد والتأخير والمطل، بل يَعُدُّ عُمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد في قطعها بِخَيْرِ مَا بِحضرته، فإنه إذا تَيَقَّن قِصرها وسُرعة انقضائها هَان عليه العمل، فَطَوَّعَت له نَفسه الانقياد إلى التزويد، فإذا استقبل المرحلة الأخرى مِن عمره استقبلها كذلك فلا يَزال هذا دَأبه حتى يَطوي مَراحل عُمره كلّها فيحمد سعيه ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع صُبح الآخرة وانقشع ظلام الدنيا فحينئذ يحمد سراه، وينجاب عنه كراه، فما أحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه واستبان فلاحه.
ثم الناس في قطع هذه المراحل قِسمان:
- فَقِسْمٌ قطعوها مُسافرين فيها إلى دار الشقاء، فكلما قطعوا منها مرحلة قربوا مِن تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته، فقطعوا تلك المراحل بِمَسَاخِطِ الربّ ومُعاداة رُسله وأوليائه ودينه والسعي في إطفاء نوره وإبطال دعوته وإقامة دعوة غيرها، فهؤلاء جُعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها واستعملوا بها فهم مَصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقونهم إلى منازلهم سوقًا كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً) أي تُزعجهم إلى المعاصي والكفر إزعاجًا، وتسوقهم سوقًا.
القسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام، وهم ثلاث أقسام:
1- ظَالِمٌ لِنَفسِه.
2- ومُقْتَصِد.
3- وسَابقٌ بالخيرات بإذن الله.
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
وهؤلاء كلهم مُستعدون للسير مُوقنون بالرجعى إلى الله، ولكن مُتفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفس السير وسرعته وبطئه.
فالظالم لنفسه: مُقَصِّرٌ في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا في صفته بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو مُتزود ما يتأذى به في طريقه، ويجد غبّ أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي الضار.
والمقتصد: اقتصر مِن الزاد على ما يبلغه ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره، فهو سالمٌ غانمٌ لِكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة.
والسابق بالخيرات: هَمُّهُ في تحصيل الأرباح وشَدّ أحمال التجارات لِعِلْمِه بِمقدار المربح الحاصل، فيرى خُسرانًا أنْ يَدّخِر شيئًا مِما بِيَدِهِ ولا يَتجّر به فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجاراتهم، فهو كرجل قد علم أنَّ أمامه بلدة الدرهم يَكسب فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد وخبرة بالتجارة، فهو لو أمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يُهيء به تجارة إلى ذلك البلد لَفَعل .
فهكذا حال السابق بالخيرات بإذن الله يَرى خُسرانًا بَيِّنًا أنْ يَمُر عليه وقت في غَير متجر.
المصدر: كتاب: طريق الهجرتين للإمام ابن القيم (من صفحة:284)